سيتركز حديثنا على ثلاث نقاط أساسية سنبدأ بها تباعاً هي :
أولاً: هل يمكن أن يظهر الله في مخلوقاته؟
ثانياً: تجسد الله في شخص المسيح.
ثالثاً : أقوال الآباء في التجسد.
لنبدأ ببركة الرب يسوع.
أولاً: هل يمكن أن يظهر الله في مخلوقاته؟
نعم. يمكن أن يظهر الله في مخلوقاته و هذان برهانان، الأول من الكتاب المقدس و الثاني فكري :
البرهان الكتابي :
الله ظهر بالفعل بمخلوقاته فظهر لموسى في عليقة مشتعلة :
فَلَمَّا رَأَى ٱلرَّبُّ أَنَّهُ مَالَ لِيَنْظُرَ، نَادَاهُ ٱللهُ مِنْ وَسَطِ ٱلْعُلَّيْقَةِ وَقَالَ: «مُوسَى، مُوسَى!». فَقَالَ: «هَأَنَذَا». فَقَالَ: «لَا تَقْتَرِبْ إِلَى هَهُنَا. ٱخْلَعْ حِذَاءَكَ مِنْ رِجْلَيْكَ ، لِأَنَّ ٱلْمَوْضِعَ ٱلَّذِي أَنْتَ وَاقِفٌ عَلَيْهِ أَرْضٌ مُقَدَّسَةٌ». ثُمَّ قَالَ: «أَنَا إِلَهُ أَبِيكَ، إِلَهُ إِبْرَاهِيمَ وَإِلَهُ إِسْحَاقَ وَإِلَهُ يَعْقُوبَ». فَغَطَّى مُوسَى وَجْهَهُ لِأَنَّهُ خَافَ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى ٱللهِ.اَلْخُرُوجُ ٣:٤-٦ AVD
و ظهر له أيضاً في جبل سيناء :
وَكَانَ جَبَلُ سِينَاءَ كُلُّهُ يُدَخِّنُ مِنْ أَجْلِ أَنَّ الرَّبَّ نَزَلَ عَلَيْهِ بِالنَّارِ، وَصَعِدَ دُخَانُهُ كَدُخَانِ الأَتُونِ، وَارْتَجَفَ كُلُّ الْجَبَلِ جِدًّا..(الخروج 19: 18)
البرهان الفكري :
الله كامل في صفاته كامل في صلاحه كامل في قدرته.
فمن جهة كمال صلاحه و صفاته :
حاشا له أن يصنع شراً، و حاشا له ألا يتمم صلاحه...
لأن عدم ارتكاب الشر هو من كمال الله..
أما عدم تتميم الصلاح إلى كماله هو نقص، و حاشا أن يمس الله نقص..
فهو عادل و كامل في العدل
و هو مُحِب و كامل في الحب
و متواضع و كامل في تواضعه
و الظهور في جسد انسان هو من كمال تواضعه و حبه و عدله.
و من حيث كمال قدرته :
فهو قادر على كلشيء شيء لا يتعارض مع كمال صفاته..
فبما أن:
1- الله قادر على كل شيء لا يتعارض مع كماله
2- ظهور الله في مخلوقاته لا يتعارض مع كماله لأن هذا الظهور ليس فيه شر...
3- جسد الإنسان أكثر كرامة من الجبل و العليقة، بل أيضاً هو رأس خليقته و الأعلى كرامة فيها...
فأين المشكلة بأن يظهر الله في جسد انسان؟
ثانياً : تجسد الله في شخص المسيح.
بعدما رأينا إمكانية ظهور الله في مخلوقاته و خصوصاً الانسان بإعتباره رأس الخليقة و أعلاها كرامةً، دعونا نرى شخص يسوع المسيح الله الظاهر في الجسد..
الله اله واحد مثلث الأقانيم الآب و الابن و الروح القدس (راجع مقالات في شرح عقدية الثالوث مع الشواهد من هنا) لأجل فداء البشر و حبه لهم، أراد الآب أن يرسل ابنه، و قرر ابنه ان يتجسد من الروح القدس متخذاً جسده من العذراء مريم، أي أن يتحد بجسد بشري مولود منها، كي يقدمه للموت بدلاً من اجساد البشر جميعاً فداءً لهم لأنه يحبهم. (راجع الفداء و لماذا تجسد الله من هنا)
من الطبيعي الا تفهم فكرة الفداء، او لماذا تجسد المسيح، من هذا المقال عليك مراجعتها من مقال، لأن التركيز هنا ليس على اسباب التجسد التي هي الفداء..
الشواهد:
إرادة الآب أن يرسل ابنه:
لأنه هكَذَا أَحَبَّ اللهُ الْعَالَمَ حَتَّى بَذَلَ ابْنَهُ الْوَحِيدَ، لِكَيْ لاَ يَهْلِكَ كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ، بَلْ تَكُونُ لَهُ الْحَيَاةُ الأَبَدِيَّةُ..(يوحنا 3: 16)
رغبة الإبن في فداء البشر :
أَنَا هُوَ الرَّاعِي الصَّالِحُ، وَالرَّاعِي الصَّالِحُ يَبْذِلُ نَفْسَهُ عَنِ الْخِرَافِ..(يوحنا 10: 11)
التجسد من الروح القدس :
أَمَّا وِلاَدَةُ يَسُوعَ الْمَسِيحِ فَكَانَتْ هكَذَا: لَمَّا كَانَتْ مَرْيَمُ أُمُّهُ مَخْطُوبَةً لِيُوسُفَ، قَبْلَ أَنْ يَجْتَمِعَا، وُجِدَتْ حُبْلَى مِنَ الرُّوحِ الْقُدُسِ..(متى 1: 18)
فالتجسد هو اتحاد لاهوت الابن بالناسوت(ناسوت=طبيعة انسانية) في شخص المسيح ، كما ظهر لموسى بكيان العليقة و كيان الجبل، ظهر لنا مُتَّحِداً بجسد بشري، فهو بهذا اله كامل و إنسان كامل، فشابه البشر من جهة ناسوته بكل شيء ما عدا الخطيئة.
بناءً على هذا، فالرب يسوع المسيح له طبيعتان، ناسوتية و لاهوتية، حيث أن طبيعته اللاهوتية لم تفارق الناسوتية لحظة واحدة ولا طرفة عين.
و بما أن له طبيعتان فينطبق عليه كل ما ينطبق على الله من حيث لاهوته، و كل ما ينطبق على الإنسان من حيث ناسوته (ماعدا الخطيئة)
لذا عندما نقول بكى يسوع فهذا ناسوته أي بكى بطبيعته البشرية
و عندما نقول انه شفى فهذا بطبيعته اللاهوتية أي شفى بطبيعته اللاهوتية..
(كما ان نفسك تحزن لكن لا تبكي فأنت تحزن بنفسك و تبكي بجسدك...)
و عندما يقول عن نفسه انه انسان، او ابن انسان فهذا صحيح لأن الجسد الظاهر فيه جسد انسان و ابن الإنسان (العذراء مريم)
حضرتك عزيزي القارئ، عندما يؤلمك جسدك تقول انا متألم، و عندما تعصرك نفسك تقول أنا اشعر بالضيق و عندما تُذنِب تجاه الله و تضيق روحك تقول انا بعيد عن الله، فبرغم الاختلاف بين نفسك و روحك و جسدك تقول عن كل هذا: "أنا"، و الرب يسوع عندما كان يتكلم عن لاهوته كان يقول أنا، و عندما يتكلم عن ناسوته كان يقول أنا...
و يجب التشديد على فكرة :
أنه حتى يتحقق فداء الناس جميعاً يجب ان يكون الجسد المقدم للموت جسد انسان كامل، يجوع و يعطش و يتعب...
لذا فنحن لا نؤمن أن الله يجوع او يعطش او ينام او يتعب او يُضرب أو يموت، بل نؤمن أن الجسد الذي ظهر فيه الله قدمه للموت عوضاً عن موتنا نحن من أجل خلاصنا...
كُلُّنَا كَغَنَمٍ ضَلَلْنَا. مِلْنَا كُلُّ وَاحِدٍ إِلَى طَرِيقِهِ، وَالرَّبُّ وَضَعَ عَلَيْهِ إِثْمَ جَمِيعِنَا..(إشعياء 53: 6)
ثالثاً: أقوال الآباء في التجسد:
القديس ايرينؤس
كيف يمكن للانسان ان يذهب الى الله لو لم يكن الله قد جاء اولا للانسان من اجل ذلك صار الكلمة انسانا وصار ابن الله ابنا للانسان لكى يتحد الانسان بالكلمة فينال التبنى ويصير ابنا لله (ضد الهرطقات 4:33:4)
القديس غريغوريوس النيزنزى
لقد ولد بكل ما للانسان ما خلا الخطية ولد من العذراء طهرها الروح القدس جسدا وروحا خرج منها الها مع الجسد الذى اقتناه واحدا من اثنين مختلفين جسدا وروحا حيث احدهما كان يؤله والاخر يتاله فهو الكائن بذاته يصير جسدا وغير المخلوق يتخذ صفة المخلوق وغير المحوى يدخل الى حيز المكان والزمان ومعطى الغنى يجعل نفسه فقيرا
(عظة 38 عن الظهور الالهى)
كيرلس السكندري
نحن نقول ايضاً ان الجسد لم يتحول الي طبيعة اللاهوت و لا طبيعة كلمة الله التي تفوق التعبير تغيرت الي طبيعة الجسد , لانه بصوره مطلقه هو غير قابل للتبدل او للتغير و يظل هو نفسه دائماً حسب الكتب .
(رسائل القديس كيرلس الي نسطور و يوحنا الانطاكي ص 17 .)